الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)} انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله: {أم مَن هذا الذين هو جند لكم} [الملك: 20]، وهذا الكلام ناظر إلى قوله: {وكُلوا من رزقه} [الملك: 15] على طريقة اللف والنشر المعكوس. والرزق: ما يَنتفِع به الناس، ويطلق على المطر، وعلى الطعام، كما تقدم في قوله تعالى: {وَجَد عندها رزقاً} [آل عمران: 37]. وضمير {أمسَكَ} وضمير {رزقه} عائدان إلى لفظ {الرحمان الواقع في قوله: {مِن دون الرحمان} [الملك: 20]. وجيء بالصلة فعلاً مضارعاً لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة. وكتب {أمَّن} في المصحف بصورة كلمة واحدة كما كتبت نظيرتها المتقدمة آنفاً. استئناف بَياني وقع جواباً عن سؤال ناشئ عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله: {الذي خلق الموت والحياة} [الملك: 2] إلى هنا، فيتجه للسائل أن يقول: لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر، واعتبروا بالآيات والعِبر، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم لَجُّوا في عُتُوّ ونفور. و {بل} للإضراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان أو للانتقال من غرض التعجيز إلى الإِخبار عن عنادهم. يقال: لجّ في الخصومة من باب سمع، أي اشتد في النزاع والخصام، أي استمروا على العناد يكتنفهم العُتّو والنفور، أي لا يترك مخلصاً للحق إليهم، فالظرفية مجازية، والعتوّ: التكبر والطغيان. والنفور: هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه. والمعنى: اشتدوا في الخصام متلبسين بالكبر عن اتباع الرسول حرصاً على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل.
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} هذا مثَل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين: كافر ومؤمن، لأنه جاء مفرعاً على قوله: {إن الكافرون إلاّ في غرور} [الملك: 20] وقوله: {بل لَجُّوا في عتوّ ونفور} [الملك: 21] وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله: {أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم} [الملك: 20] {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} [الملك: 21]، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثَللِ السوء، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء. ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المُنصِف نحو {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال. والذي انقدح لي: أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله: {على صراط مستقيم} فلا بد من اعتبار مَشي المكبّ على وجهه مشياً على صراط مُعْوجّ، وتعين أن يكون في قوله: {مكباً على وجهه} استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطاً معوجاً في تأمله وترسُّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه، بحال المكِبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله: {سَوِيّاً} المشعر بأن {مُكباً} أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود. فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطفُ على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإِشراك في كل زمان، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39]. ويُنَور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] وقوله: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 108]، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإِسلام بالسُّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبهاً بالسبيل وسالكُه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله: {وما أنا من المشركين} [يوسف: 108]. فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله {يمشي مكبّاً على وجهه} تشبيه لحال المشرك في تقسُّم أمره بين الآلهة طلباً للذي ينفعه منها الشاكّ في انتفاعه بها، بحال السائر قاصداً أرضاً معينة ليست لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلُغ إلى مقصده فيبقى حائراً متوسماً يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإِبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة. وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله: {مكباً على وجهه} بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض. 0 وقوله: {أمَّن يمشي سويّاً} تشبيه لحال الذي آمن بربّ واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلاّ إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره. وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني. والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري. والمُكِب: اسم فاعل من أكَب، إذا صار ذا كَبّ، فالهمزة فيه أصلها لإِفادة المصير في الشيء مثل همزة: أقشع السحابُ، إذا دخل في حالة القشع، ومنه قولهم: أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم، وأرملوا إذا فني زادهم، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعدياً والمهموز قاصراً. و {أهدى} مشتق من الهُدَى، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكباً على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى: {قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} [يوسف: 33] في قول كثير من الأيمة. ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام. والسويّ: الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى: {أهْدِك صراطاً سوياً} [مريم: 43]. و(أم) في قوله: {أمن يمشي سوياً} حرف عطف وهي (أم) المعادلة لهمزة الاستفهام. و(مَن) الأولى والثانية في قوله: {أفمن يمشي مكباً} أو قوله: {أمن يمشي سوياً} موصولتان ومحْملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين، وقيل: أريد شخص معيّن أريد بالأولى أبو جهل، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما.
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقُول لهم ما سيُذكر تفنناً في البيان وتنشيطاً للأذهان حتى كأنَّ الكلامَ صدَر من قائلين وترفيعاً لقدر نبيئه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظاً من التذكير معه كما قال تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك} [الدخان: 58]. والانتقال هنا إلى الاستدلال بفُروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإِنسان بعد أصلها، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة، إلى الاستدلال بخلق الإِنسان ومداركه، وقد أتبع الأمر بالقول بخمسةٍ مِثْلِه بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماماً بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار}، الخ. والضمير {هو} إلى {الرحمان} من قوله: {من دون الرحمان} [الملك: 20]. والإِنشاء: الإيجاد. وإفراد {السمع} لأن أصله مصدر، أي جعل لكم حاسة السمع، وأما {الأبصار} فهو جمع البصر بمعنى العَين، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} في سورة البقرة (7) والأفئدة} القلوب، والمراد بها العقول، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب. والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسندِ في قوله: {هو الذي أنشأكم} إلى آخره قصرُ إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلةَ من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإِنشاء وإعطاء الإِحساس والإِدراك. و {قليلاً ما تشكرون} حال من ضمير المخاطبين، أي أنعم عليكم بهذه النعم في حال إهمالكم شكرها. و {مَا} مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل {قليلاً} لاعتماد {قليلاً} على صاحب حال. و{قليلاً} صفة مشبَّهة. وقد استعمل {قليلاً} في معنى النفي والعدم، وهذا الإِطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} [البقرة: 88] وقوله تعالى: {فلا يؤمنون إلاّ قليلاً} في سورة النساء (155)، وتقول العرب: هذه أرض قلما تنبت.
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} إعادة فعل {قل} من قبيل التكرير المشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال. والذرْء: الإِكثار من الموجود، فهذا أخص من قوله: {هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] أي هو الذي كثَّركم على الأرض كقوله: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61] أي أعمركم إياها. والقول في صيغة القصر في قوله: {هو الذي ذرأكم في الأرض}. مثل القول في قوله: {هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] الآية. وقوله: {وإليه تحشرون} أي بعد أن أكثركم في الأرض فهو يزيلكم بموت الأجيال فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أُنذروا به لا يكون إلاّ بعد البعث والبعث بعد الموت، فالكناية عن الموت بالحشر بمرتبتين من الملازمة، وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لا بد منه، وإنذارهم بالبعث والحشر. فتقديم المعمول في {وإليه تحشرون} للاهتمام والرعاية على الفاصلة، وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلاً فضلاً عن أن يدعوه لغير الله.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)} لما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله: {هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] إلى {هو الذي ذرأكم في الأرض} [الملك: 24] انحصر عنادهم في مضمون قوله: {وإليه تحشرون} [الملك: 24] فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به، وقال بعضهم لبعض {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جِنة} [سبأ: 78] وكانوا يقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [سبأ: 29] واستمروا على قوله، فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير. و {الوعد} مصدر بمعنى اسم المفعول، أي متى هذا الوعد فيجوز أن يراد به الحشر المستفاد من قوله: {وإليه تحشرون} [الملك: 24] فالإشارة إليه بقوله: {هذا} ظاهرة، ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين، فالإشارة إلى وعيد سمعوه. والاستفهام بقولهم: {متى هذا الوعد} مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك قال تعالى: {فسيقولون من يُعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو} [الإسراء: 51] وأتوا بلفظ {الوعد} استنجازاً له لأن شأن الوعد الوفاء. وضمير الخطاب في: {إن كنتم صادقين} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين لأنهم يلهجون بإنذارهم بيوم الحشر، وتقدم نظيره في سورة سبأ. وأمر الله رسوله بأن يجيب سؤالهم بجملة على خلاف مرادهم بل على ظاهر الاستفهام عن وقت الوعد على طريقة الأسلوب الحكيم، بأن وقت هذا الوعد لا يعلمه إلاّ الله، فقوله: {قل} هنا أمر بقول يختص بجواب كلامهم وفصل دون عطف بجريان المقول في سياق المحاورة، ولم يعطف فعل {قل} بالفاء جرياً على سنن أمثاله الواقعة في المجاوبة والمحاورة، كما تقدم في نظائره الكثيرة وتقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30). ولام التعريف في العلم} للعهد، أي العلم بوقت هذا الوعد. وهذه هي اللام التي تسمى عوضاً عن المضاف إليه، وهذا قصر حقيقي. {وإنما أنا نذير مبين} قصر إضافي، أي ما أنا إلاّ نذير بوقوع هذا الوعد لا أتجاوز ذلك إلى كوني عالماً بوقته. والمبين: اسم فاعل من أبان المتعدي، أي مبين لما أمرت بتبليغه.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)} (لما) حرف توقيت، أي سيئت وجوههم في وقت رؤيتهم الوعد. والفاء فصيحة لأنها اقتضت جملة محذوفة تقديرها: فحل بهم الوعد فلما رأوهُ الخ، أي رأوا الموعود به. وفعل {رأوه} مستعمل في المستقبل، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر، بقرينة قوله: {ويقولون متى هذا الوعد} [الملك: 25] فإنه يقتضي أنهم يقولونه في الحال وأن الوعد غير حاصل حين قولهم لأنهم يسألون عنه ب {متى}. ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} في سورة النساء (41) وقوله تعالى: {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} في سورة النحل (89) إذ جمع في الآيتين بين فعل نبعث} مضارعاً وفعل {جئنا} ماضياً. وأصل المعنى: فإذا يرونه تساء وجوه الذين كفروا الخ، فعدل عن ذلك إلى صوغ الوعيد في صورة الإخبار عن أمر وقع فجيء بالأفعال الماضية. وضمير {رأوه} عائد إلى {الوعد} [الملك: 25] بمعنى: رأوا الموعود به. والزُلفة بضم الزاي: اسم مصدر زَلف إذا قرب وهو من باب تعب. وهذا إخبار بالمصدر للمبالغة، أي رأوه شديد القرب منهم، أي أخذ ينالهم. و {سيئت} بني للنائب، أي ساء وجوهَهم ذلك الوعد بمعنى الموعود. وأسند حصول السوء إلى الوجوه لتضمينه معنى كَلَحَتْ، أي لأنه سوء شديد تظهر آثار الانفعال منه على الوجوه، كما أسند الخوف إلى الأعين في قول الأعشى: وأقدِم إذا ما أعيُن الناس تَفْرَقُ *** {وقيل} أي لهم. و {تدَّعون} بتشديد الدال مضارع ادَّعى. وقد حذف مفعوله لظهوره من قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الملك: 25]، أي تدَّعون أنه لا يكون. و {به} متعلق ب {تدعون} لأنه ضمّن معنى «تكذّبون» فإنه إذا ضمّن عامل معنى عامل آخر يحذف معمول العامل المذكور ويذكر معمول ضمنه ليدل المذكور على المحذوف. وذلك ضرب من الإيجاز. وتقديم المجرور على العامل للاهتمام بإخطاره وللرعاية على الفاصلة. والقائل لهم {هذا الذي كنتم به تدَّعون} ملائكة المحشر أو خَزنَة جهنم، فعدل عن تعيين القائل، إذ المقصود المقول دون القائل فحذْف القائل من الإِيجاز. والقصر المستفاد من تعريف جزأي الإسناد تعريضٌ بهم بأنهم من شدة جحودهم بمنزلة من إذا رأوا الوعد حسبوه شيئاً آخر على نحو قوله تعالى: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24]. وقرأ الجمهور {سِيئت} بكسرة السين خالصة، وقرأه ابن عامر والكسائي بإشمام الكسرة ضمة، وهما لغتان في فاء كل ثلاثي معتل العين إذا بُني للمجهول. وقرأ الجمهور {تَدَّعون} بفتح الدال المشددة وقرأه يعقوب بسكون الدال من الدعاء، أي الذي كنتم تدعون الله أن يصيبكم به تهكماً وعناداً كما قالوا {فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)} هذا تكرير ثان لفعل {قل هو الذي أنشأكم} [الملك: 23]. كان من بَذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وحكى عن بعضهم {ويَتربص بكم الدوائر} [التوبة: 98]، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى: {وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك} [الأنفال: 30]، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقةً تدحض أمانيَّهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جرَه إليه عمله، وقد جرَّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حَيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون، قال تعالى: {فإمَّا نذهبَنَّ بك فإنّا منهم منتقمون أو نُرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} [الزخرف: 41، 42] وقال: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهُم الخالدون} [الأنبياء: 34] وقال: {إنك مَيت وإنهم ميتون} [الزمر: 30] أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن، وينسب إلى الشافعي: تمنَّى رجال أن أموت فإنْ أمت *** فتلكَ سبيل لستُ فيها بأوْحَدِ فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم: {متى هذا الوعد} [الملك: 25] بأن قارنه كلام بذيء مثل أن يقولوا: أبَعْدَ هلاكك يأتي الوَعْد. والإهلاك: الإِماتة، ومقابلةُ {أهلكني} ب {رحِمنا} يدل على أن المراد: أو رحمنا بالحياة، فيفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيئه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحِكَم أرادها كما دلّ عليه قوله: «حياتي خيرٌ لكم وموْتي خيرٌ لكم»، ولعلّ حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصِّيصية خصّه الله بها من بين الأنبياء، فلما أتم الله دينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة، وقد أشارت إلى هذا سورة {إذا جاء نصر الله من قوله: {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره} [النصر: 13]. ولله درَ عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله: رأيت لمنايا لم يدعْنَ محمداً *** ولا باقياً إلاَّ لَهْ الموتُ مُرْصَداً وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل، إذ قال {ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 4]، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يَرُدُّ عليه روحَه الزكية كلَّما سلّم عليه أحد فيردّ عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح. وإنما سمَّى الحياة رحمة له ولمن معه، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدراً حياته، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإِيمان والأعمال الصالحة. والاستفهام في {أرأيتم} إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعاً ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد. والرؤية علمية، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بَعْدَه مفعولاه، وهو معلق بالاستفهام الذي في جملة جواب الشرط، فتقدير الكلام: أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكتُ وهلك من معي، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المُعدّ للكافرين. وأُقحم الشرط بين فعل الرؤية وما سدّ مسد مفعوليه. والفاء في قوله: {فمن يأتيكم} [الملك: 30] رابطة لجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصلُه المبتدأ والخبرُ وهو المفعولان المقدّران رُجّح جانب الشرط. والمعية في قوله: {ومن معي} معية مجازية، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين، كما في قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} [الفتح: 29] الآية، أي الذين آمنوا معه، وقوله: {والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم} [التحريم: 8] كما أطلقت على الموافقة في الرأي والفهم في قول أبي هريرة: «أنا مع ابن أخي»، يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمان، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفّى عنها الحامل إذا وضعتْ حملها قبل مضي عدة الوفاة. والاستفهام بقوله: {فمن يجير الكافرين} الخ إنكاري، أي لا يجيرهم منه مجير، أي أظننتم أن تجدوا مجيراً لكم إذا هَلَكنا فذلك متعذر فماذا ينفعكم هلاكنا. والعذاب المذكور هنا ما عبّر عنه بالوعد في الآية قبلها. وتنكير {عذاب} للتهويل. والمراد ب {الكافرين} جميع الكافرين فيشمل المخاطبين. والكلام بمنزلة التذييل، وفيه حذف، تقديره: من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين. وذُكر وصف {الكافرين} لما فيه من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف. وقرأ الجمهور بفتحة على ياء {أهلكنيَ}، وقرأها حمزة بإسكان الياء. وقرأ الجمهور ياء {معيَ} بفتحة. وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء.
{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)} هذا تكرير ثالث لفعل {قل} من قوله: {قل هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] الآية. وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قوله: {أو رحمنا} [الملك: 28] فإنه بعد أن سوَّى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أيّ الحالين فُرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمان، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم الله في الدنيا والآخرة، فيعلم المشركون علم اليقين أيّ الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة. وضميرُ {هو} عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله، أي الله هو الذي وَصْفُه {الرحمان} فهو يرحمنا، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تُحرَموا آثار رحمته. ونحن توكلنا عليه دون غيره وأنتم غرّكم عزّكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم. وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى الجانب المهتدي والجانب الضالّ من قوله: {فستعلمون من هو في ضلال مبين} لأنه يظهر بداءً تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف {الرحمان} وتوكلوا على الأوثان. و {مَن} موصولة، وما صْدَقُ {مَن} فريق مُبهم متردد بين فريقين تضمنهما قوله: {إن أهلكني الله ومَن معي} [الملك: 28] وقوله: {فمن يجير الكافرين} [الملك: 28]، فأحد الفريقين فريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والآخر فريق الكافرين، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين. وتقديم معمول {توكلنا} عليه لإفادة الاختصاص، أي توكلنا عليه دون غيره تعريضاً بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوها في التوكل مع الله، أو نَسُوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الْاصنام. وإنما لم يقدم معمول {آمنَّا} عليه فلم يقل: به آمنا لمُجرد الاهتمام إلى الإِخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله: {فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} [الملك: 28] فإن هذا جواب آخر عن تمنّيهم له الهلاك سُلك به طريق التبكيت، أي هو الرحمان يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكْفر به كما كفرتم، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإِشراك وإثبات التوحيد، إذ الكلام في الإِهلاك والإنجاء المعبّر عنه ب {رَحِمنَا} [الملك: 28] فجيء بجملة {ءامنا} على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص، بخلاف قوله: {وعليه توكلنا} لأن التوكل يقتضي منجياً وناصراً، والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم، فقيل: نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه، بل على الرحمان وحده توكلنا. وفعل {فستعلمون} معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده. وقرأ الجمهور {فستعلمون} بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخباراً من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالّين.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} إيماءٌ إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم، كما دل عليه خبر تعجب القافلة مِن (جُرْهم) التي مرّت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجَر بابنه إسماعيل ففجَّر الله لها زمزم ولمحتْ القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا: ما عهدنا بهذه الأرض ماء، ثم حفَر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئراً تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قُبيل البعثة، وكانت بها بئر أخرى تسمى الجَفْر (بالجيم) لبني تيم بن مُرة، وبئر تسمى الجَم ذكرها ابن عطية وأهملها «القاموس» و«تاجه»، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فماء هذه الآبار هو الماء الذي أُنذروا بأنه يصبح غوراً، وهذا الإِنذار نظير الواقع في سورة القلم (17 33) {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} إلى قوله: لو كانوا يعلمون. ! والغور: مصدر غارتْ البئر، إذا نَزح ماؤها فلم تنله الدلاء. والمراد: مَاء البئر كما في قوله: {أو يصبح ماؤها غوراً} في ذكر جنة سورة الكهف (41). وأصل الغور: ذهاب الماء في الأرض، مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض، والإِخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل: عَدل ورِضَى. والمعين: الظاهر على وجه الأرض، والبئر المعينة: القريبة الماء على وجه التشبه. والاستفهام في قوله: فمن يأتيكم بماء} استفهام إنكاري، أي لا يأتيكم أحد بماء مَعِين: أي غير الله واكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله {أمَّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان} [الملك: 20] الآيتين. وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان. ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض، قال تعالى: {ألم تَر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض} [الزمر: 21] وقال: {وإنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإنّ منها لما يشَّقّق فيخرج منه الماء} [البقرة: 74]. ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في «الكشاف» مع ما نقل عنه في «بيانه»، قال: وعن بعض الشُطَّار (هو محمد بن زكرياء الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه) أنها (أي هذه الآية) تُليت عنده فقال: تجيء به (أي الماء) الفُؤوس والمَعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته. والله أعلم.
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء. ورَسمُوا حرف {ن} بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو {نُون} (بنوننٍ بعدها واو ثم نون) وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلاً فإنما ترسم سينا، وياء، وفَاء، ولا ترسم صورة سَيْف. وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة. ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها، وكذلك قرئ في القراءات المتواترة.
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} الفاء للتفريع على قوله: {مَا أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] باعتبار ما اقتضاه قوله {بنعمة ربك} [القلم: 2] من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين، ابتدأ بإبطال بهتانهم، وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون أَهُم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد، أم هو باختلال العقل كما اختلقوا. والمقصود هو ما في قوله: {ويبصرون} ولكن أدمج فيه قوله: {فستبصر} ليتأتى بذكر الجانبين إيقاعُ كلام منصف (أي داع إلى الإِنصاف) على طريقة قوله: {وإنا أو إياكم لَعَلَى هُدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم. وفعْلا (تبصر ويبصرون)، بمعنى البصر الحسي. وروي عن ابن عباس، أن معناه فستعلم ويعلمون، فجعله مثل استعمال فعل الرؤية في معنى الظن، فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من (أبصر) لا يستعمل بمعنى الظن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافاً لهشام كذا في «التسهيل» فالمعنى: ستَرى ويَرَون رأيَ العين أيكم المفتون فإن كان بمعنى العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ذلك فالسين في قوله: {فستبصر} للتأكيد، وأما المشركون فسيرون ذلك، أي يعلمون آثار فتونهم وذلك فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح. وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال. وضمير {يُبصرون} عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون: هو مجنون. و (أي) اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه، ويظهر أن مدلول (أي) فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمميّز واقعي أو جَعْلي، فهذا مدلول (أيّ) في جميع مواقعه، وله مواقع كثيرة في الكلام، فقد يشرب (أيّ) معنى الموصول، ومعنى الشرط، ومعنى الاستفهام، ومعنى التنويه بكامل، ومعنى المعرّف ب (ال) إذا وُصل بندائه. وهو في جميع ذلك يفيد شيئاً متميزاً عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه، فقوله تعالى: {بأيكم المفتون} معناه: أيُّ رجل، أو أيُّ فريق منكم المفتون، ف (أي) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل (تُبصر ويبصرون) أو متعلق به تعلقَ المجرور. وقد تقدم استعمال (أيّ) في الاستفهام عند قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} في سورة {الأعراف: 185]. والمفتون}: اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة، فيجوز أن يراد بها هنا الجُنون فإن الجنون يعدّ في كلام العرب من قبيل الفتنة (يقولون للمجنون: فَتَنَتْهُ الجن) ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلاً، بإيثار هذا اللفظ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجَّه أو التورية ليصح فرضه للجانبين. فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكنْ في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة. والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله، والأصل: أيّكم المفتونُ فهي كالباء في قوله: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]. ويجوز أن تكون الباء للظرفية والمعنى: في أيّ الفريقين منكم يوجد المجنون، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضاً بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلاً معروفاً بين العقلاء مذكوراً برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل {المفتون} في الآية وصفاً ادعائياً على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله: إذا تَرحَّلْت عن قوم وقد قدروا *** أن لا تفارقهم فالرَّاحلون هُمُو ويجوز أن يكون {المفتون} مصدراً على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجَلْد؛ والميْسور لليسر، والمعسورِ لضده، وفي المثل «خُذ من ميْسوره ودَعْ معسوره». والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على {المفتون} وهو مبتدأ. يُضمن فعل (تُبصر ويبصرون) معنى: توقن ويوقنون، على طريق الكناية بفعل الإِبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإِتيان بالباء للإِشارة إلى هذا التضمين. والمعنى: فستعلم يقيناً ويعلمون يقيناً بأيّكم المفتون، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب (يبصر ويُبصرون).
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} تعليل لجملة: {فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون} [القلم: 56] باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له {إنك لمجنون} [الحجر: 6] وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنّى عنه قوله: {فستبصر ويبصرون} [القلم: 5] من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون المردودُ عليهم بقوله تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] إذ هم الضالون عن سبيل ربّ النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسَة مساواةٍ مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة المفتون. ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون، فتُنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مُساوِيَ المساوي لشيء مساوٍ لذلك الشيء. وهذا الانتقال تضمن وعداً ووعيداً، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلةِ من ضل عنه بالمهتدين. وعمومُ من ضل عن سبيله وعمومُ المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضاً من التذييل. وهو بعدَ هذا كله تمهيد وتوطئة لقوله: {فلا تطع المكذبين} [القلم: 8].
{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} تفريع على جملة {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} [القلم: 7] إلى آخرها، باعتبار ما تضمنته من أنه على الهدى، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى، وتَصلّب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لِيناً ولكن يستأهلون إغلاظاً. رُوي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودّوا أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه، ويصانعَ بعضُهم بعضاً فنهاه الله عن إجابتهم لما وَدُّوا. ومعنى {ودُّوا}: أحبوا. وليس المراد أنهم ودُّوا ذلك في نفوسهم فأطْلَع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله: {فلا تطع المكذبين} وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبيء صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة. فينتظم من هذا أن قوله {فلا تطع المكذبين} نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقْع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله: {فستبصُر ويبصرون بأيكم المفتون إلى قوله: بالمهتدين} [القلم: 5 7] فلعلهم تحدثوا أو أوعَزُوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه {إنه لمجنون} [القلم: 51] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحاً بينهم ويترك كلّ فريق فريقاً وما عبده. والطاعة: قبول ما يُبتغَى عمله، ووقوع فعل {تطع} في حيز النهي يقتضي النهي عن جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم، فالطاعة مراد بها هنا المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى: {فلا تطع الكافرين وجَاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان: 52]، أي لا تلن لهم. واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإِيماء إلى وجه بناءِ الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته. ومن هنا يتضح أن جملة {ودُّوا لو تُدهِنُ فيدهنون} بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف. وفعل {تدهن} مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهناً إما لتليينه وإما لتلوينه، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإِدهان كما أشار إليه الراغب، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك، أي لو تُواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها. والفاء في {فيدهنون} للعطف، والتسبب عن جملة {لو تدهن} جواباً لمعنى التمني المدلول عليه بفعل {ودُّوا} بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار (أنْ) لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره: فهم يدهنون. وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدماً على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص، أي فالإِدهان منهم لا منك، أي فاترك الإِدهان لهم ولا تتخلق أنت به، وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى: {فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} [الجنّ: 13]، أي فهو لا يخاف بخساً ولا رهقاً. وحرف {لو} يحتمل أن يكون شرطياً ويكونَ فعل {تدهن} شرطاً، وأن يكون جوابُ الشرط محذوفاً ويكون التقدير: لو تدهن لحصل لهم ما يودون. ويحتمل أن يكون {لو} حرفاً مصدرياً على رأي طائفة من علماء العربية أن {لو} يأتي حرفاً مصدرياً مثل (أنْ) فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير: ودوا إدهانك. ومفعول {وَدُّوا} محذوف دل عليه {لو تدهن}، أو هو المصدر بناء على أن {لو} تقع حرفاً مصدرياً، وتقدم في قوله تعالى: {يوَدُّ أحدهم لو يُعَمّر ألف سنة} في سورة البقرة (96). وقد يفيد موقع الفاء تعليلاً لمودتهم منه أن يدهن، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله.
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يُكتفَ بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال: ولا كلَّ خلاف، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى. وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله: {سَنَسِمُهُ على الخرطوم} [القلم: 16] على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين. وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني: أيا ابنَ زيَّابَةَ إِنْ تلْقَنِي *** لاَ تلْقَنِي في النعَم العازب وتَلْقَنِي يَشْتَدُّ بي أجرد *** مُستقدِمُ البِرْكة كالراكب فلم يكتف بعطفٍ: ب (بل) أو (لكنْ) بأن يقول: بل تلقني يشتد بي أجرد، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد، وعَدَل عن ذلك فأعاد فعل (تلقني). وكلمة {كلَّ} موضوعة لإفادة الشمول والإِحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها {كلّ} بالمباشرة وبالنعوت. وقد وقعت كلمة {كلَّ} معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفاً للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بَلْهَ من اجتمع له عِدَّةٌ منها. وفي هذا ما يبطل ما أصَّلَه الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإِعجاز» من الفرق بين أن تقع {كلَّ} في حيز النفي، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيفت إليه {كلَّ} إن كانت {كلَّ} مسنداً إليها، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيفت إليه {كل} إن كانت معمولة للمنفيِّ أو المنهيّ عنه، وبين أن تقع {كلّ} في غَير حَيّزِ النفي، وجعَلَ رفْع لفظ (كلُّه) في قول أبي النجم: قد أَصْبَحَتْ أُم الخيار تدّعي *** عليّ ذنباً كلُّه لم أصْنَع متعيناً، لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرحَ بإبطاله العلامةُ التفتزاني في «المطول»، واستشهد للإِبطال بقوله تعالى: {والله لا يُحب كلّ كفار أثيم} [البقرة: 276] وقوله: {ولا تطع كل حلاف مهين}. وأجريت على المنهي عن الإِطاعة بهذه الصفات الذميمة، لأن أصحابها ليسوا أهلاً لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلاّ بسوء. قال جمع من المفسرين المراد بالحَلاّف المَهين: الوليد بن المغيرة، وقال بعضهم: الأخنس بن شَريق، وقال آخرون: الأسودُ بن عبد يغوث، ومن المفسرين من قال المراد: أبو جهل، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء، وإلاّ فإن لفظ {كلّ} المفيدَ للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين، أما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم. وليس المراد مَن جَمَع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن التي خُتم بها قوله: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 15]، لكن الذي قال في القرآن إنه {أساطير الأولين} [القلم: 15] هو الوليد بن المغيرة، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة، فلما تلقف الآخَرون منه هذا البهتان وأُعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية {وقالوا أساطير الأولين} [الفرقان: 5]. وذُكرت عشر خلال من مذامّهم التي تخلقوا بها: الأولى: {حَلاَّف}، والحَلاف: المكثر من الأيْمَان على وُعودِه وأخباره، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية عن تعمد الحنث، وإلاَّ لم يكن ذمه بهذه المثابة، ومن المفسرين من جعل {مَهين} قيداً ل {حلافٍ} على جَعْل النهي عن طاعة صاحب الوصفين مجتمعين. هذه خصلة ثانية وليست قيداً لصفة {حَلاّف}. والمهين: بفتح الميم فَعيل من مَهُن بمعنى حَقُرَ وذَلّ، فهو صفة مشبهة، وفعله مَهُنَ بضم الهاء، وميمه أصلية وياؤه زائدة، وهو فعيل بمعنى فاعل، أي لا تطع الفاجر الحقير. وقد يكون {مهين} هنا بمعنى ضعيف الرأي والتمييز، وكل ذلك من المهانة. و {مهين}: نعت ل {حَلاف}، وكذلك بقية الصفات إلى {زنيم} [القلم: 13] فهو نعت مستقل، وبعضهم جعله قيداً ل {حَلاّف} وفَسر المهين بالكذاب أي في حلفه.
{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} الهمّاز كثير الهمزة. وأصل الهمز: الطعن بعود أو يد، وأطلق على الأذى بالقول في الغيبة على وجه الاستعارة وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة وفي التنزيل {ويل لكلّ هُمَزَة} [الهمزة: 1]. وصيغة المبالغة راجعة إلى قوة الصفة، فإذا كان أذى شديداً فصاحبه {همّاز} وإذا تكرر الأذى فصاحبه {همّاز}. المشَاء بالنميم: الذي يَنِمّ بين الناس، ووصفه بالمشّاء للمبالغة. والقول في هذه المبالغة مثل القول في {هَمَّازهَمَّازٍ مَّشَّآءِ} وهذه رَابعَة المذامّ. والمشي: استعارة لتشويه حاله بأنه يتجشم المشقة لأجل النميمة مثل ذِكر السعي في قوله تعالى: {ويسعَوْن في الأرض فساداً} [المائدة: 64]، ذلك أن أسماء الأشياء المحسوسة أشدّ وقعاً في تصوّر السامع من أسماء المعقولات، فذِكر المشي بالنميمة فيه تصوير لحال النمّام، ألا ترى أن قولك: قُطِع رأسُه أوقعُ في النفس من قولك: قُتِل، ويدل لذلك أنه وقع مثله في قول النبي صلى الله عليه وسلم «وأمَّا الآخَرُ فكان يمشي بالنميمة» والنميم: اسم مرادف للنميمة، وقيل: النميم جمع نميمة، أي اسمُ جمع لنميمة إذا أريد بها الواحدة وصيرورتُها اسماً.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)} هذه مذمة خامسة. {منّاع}: شديد المنع. والخير: المال، أي شحيح، والخير من أسماء المال قال تعالى: {وإِنه لحُب الخير لشديد} [العاديات: 8] وقال: {إنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180]، وقد روعي تماثل الصيغة في هذه الصفات الأربع وهي {حَلاّففٍ، هَمّازٍ، مشَّاءٍ، منَّاعٍ} وهو ضرب من محسن الموازنة. والمراد بمنع الخير: منعه عمن أسلَمَ من ذويهم وأقاربهم، يقول الواحد منهم لمن أسلم من أهله أو مواليه: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً، وهذه شنشنة عرفوا بها من بعد، قال الله تعالى في شأن المنافقين {هم الذين يقولون لا تنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضّوا} [المنافقون: 7]. وأيضاً فمِن منععِ الخير ما كان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة فلا يعطون الضعفاء وإنما يعطون في المجامع والقبائل قال تعالى: {ولا يَحُضّون على طعام المسكين} [الفجر: 18]. قيل: كان الوليد بن المغيرة ينفق في الحج في كل حجة عشرين ألفاً يطعم أهلَ مِنى، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً. هما مذمتان سادسة وسابعة قرن بينهما لمناسبة الخصوص والعموم. والاعتداء: مبالغة في العُدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة. والأثيم: كثير الإِثم، وهو فعيل من أمثلة المبالغة قال تعالى: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} [الدخان: 4344]. والمراد بالإِثم هنا ما يعد خطيئة وفساداً عند أهل العقول والمروءة وفي الأديان المعروفة. قال أبو حيان: وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء {حَلاّف} [القلم: 10] وبعده {مَهين} [القلم: 10] لأن النون فيها تواخخِ مع الميم، أي ميم {أثيم}، ثم جاء {همَّاز مشّاء} [القلم: 11] بصفتي المبالغة، ثم جاء {منّاع للخَير معتد أثيم} صفات مبالغة ا ه. يريد أن الافتعال في {معتدِ} للمبالغة.
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} ثامنة وتاسعة. والعُتُل: بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفةٍ لأنه مشتق من العَتْل بفتح فسكون، وهو الدفع بقوة قال تعالى: {خذوه فاعْتلُوه إلى سواء الجحيم} [الدخان: 47] ولم يسمع (عاتل). ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالين مختلفين. وفسر العُتل بالشديد الخِلقة الرحيب الجوف، وبالأكول الشروب، وبالغشوم الظلوم، وبالكثير اللّحم المختال، روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمان بن غَنْم، يزيدُ بعضهم على بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند غير قوي، وهو على هذا التفسير إتْباع لصفة {منّاع للخير} [القلم: 12] أي يمنع السائل ويدفعه ويُغلظ له على نحو قوله تعالى: {فذلك الذي يَدعُّ اليتيم} [الماعون: 2]. ومعنى {بعد ذلك} علاوة على ما عُدّد له من الأوصاف هو سيّئ الخِلقة سيِّئ المعاملة، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكور، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 30] على أحد الوجهين فيه. وعلى تفسير العُتل بالشديد الخِلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه. وموقع {بعد ذلك} موقعَ الجملة المعترضة، والظرفُ خبر لمحذوف تقديره: هو بعد ذلك. ويجوز اتصال {بعد ذلك} بقوله: {زنيم} على أنه حال من {زنيم}. والزنيم: اللصيق وهو من يكون دعياً في قومه ليس من صريح نسبهم: إِما بمغمز في نسبه، وإِما بكونه حليفاً في قوم أو مولى، مأخوذ من الزَنَمة بالتحريك وهي قطعة من أذن البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير. والزنمتان بضعتان في رقاب المعز. قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده. وقيل أريد الأخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف فحالف قريشاً وحلّ بينهم، وأيَّا ما كان المراد به فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه {كل} [القلم: 10] إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال: ما بال أقوام يعملون كذا، ويُراد واحد معين. قال الخطيم التميمي جاهلي، أو حسان بن ثابت: زنيم تداعاه الرجال زيادةً *** كما زيد في عَرض الأديم الأكارع ويطلق الزنيم على من في نسبه غضاضة من قِبَل الأمهات، ومن ذلك قول حَسان في هجاء أبي سفيان بن حَرب، قبل إسلام أبي سفيان، وكانت أمه مولاةً خلافاً لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن: وأنتَ زنيم نيطَ في آل هاشم *** كما نِيطَ خلْفَ الراكب القَدَحُ الفَرْدُ وإنَّ سَنام المجد من آل هاشم *** بنُو بنت مخزوم ووالدُكَ العَبْد يريد جدّه أبا أمه وهو مَوهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سُمية بنت موهب هذا. والقول في هذا الإِطلاق والمرادِ به مماثل للقول في الإِطلاق الذي قبله.
{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} يتعلق قوله: {أن كان ذا مال وبنين} بفعل {قَال} بتقدير لام التعليل محذوفة قبل {أنْ}، وهو حذف مطرد تعلق بذلك الفعل ظرف هو {إذا تتلى} ومجرور هو {أن كان ذا مال}، ولا بدع في ذلك وليست {إذا} بشرطية هنا فلا يهولنك قولهم: إن (مَا) بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، على أنها لو جعلت شرطية لما امتنع ذلك لأنهم يتوسعون في المجرورات ما لا يتوسعون في غيرها وهذا مجرور باللام المحذوفة. والمراد: كل من كان ذا مال وبنين من كبراء المشركين كقوله تعالى: {وذَرْني والمكذبين أولِي النعمة} [المزمل: 11]. وقيل: أريد به الوليد بن المغيرة إذ هو الذي اختلق أن يقول في القرآن {أساطير الأولين} وقد علمت ذلك عند تفسير قوله تعالى: {ولا تطِعْ كلّ حلاّف مهين} [القلم: 10]. وكان الوليد بن المغيرة ذا سعة في المال كثير الأبناء وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {ذرني ومن خلقتُ وحيداً وجعلتُ له مالاً ممدوداً وبنينَ شهوداً إلى قوله: {إن هذا إلاّ قول البشر} [المدثر: 1125]. والوجه أن لا يختص هذا الوصف به. وأن يكون تعريضاً به. والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة، والأسطورة كلمة معربة عن الرومية كما تقدم عند قوله تعالى: {يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين} في الأنعام (25) وقوله: {وَإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأولين} في سورة النحل (24). وختمت الأوصاف المحذر عن إطاعة أصحابها بوصف التكذيب ليُرجع إلى صفة التكذيب التي انتُقل الأسلوب منها من قوله: {فلا تطع المكذبين} [القلم: 8]. وقرأ الجمهور {أنْ كان ذا مال} بهمزة واحدة على أنه خبر. وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بهمزتين مخففتين فهو استفهام إنكاري. وقرأه ابن عامر بهمزة ومَدَّة بجعل الهمزة الثانية ألفاً للتخفيف.
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} استئناف بياني جواباً لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصفوا بها أن يسأل السامع: ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربِّهم. وضمير المفرد الغائب في قوله: {سنسمه} عائد إلى كُل حلاّف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه {كلَّ} [القلم: 10] من الصفات التي جاءت بحالة الإِفراد. والمعنى: سنسم كل هؤلاء على الخراطيم، وقد علمت آنفاً أن ذلك تعريض بمعيّن بصفة قوله: {أساطير الأولين} [القلم: 15] وبأنه ذو مال وبنين. و {الخرطوم}: أريد به الأنف. والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل. وقد خلط أصحاب اللّغة في ذكر معانيه خلطاً لم تتبين منه حقيقته من مجازه. وذكر الزمخشري في «الأساس» معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي، وانبهم كلامه في «الكشاف» إلاّ أن قوله فيه: وفي لفظ {الخُرطوم} استخفاف وإهانة، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإِنسان مجاز مرسل، وجزم ابن عطية: أن حقيقة الخرطوم مَخْطَممِ السَبع أي أنف مثل الأسد، فإطلاق الخرطوم على أنف الإِنسان هنا استعارة كإِطلاق المِشفر وهو شفة البعير على شفة الإِنسان في قول الفرزدق: فلو كنتَ ضبيّاً عرفتَ قرابتي *** ولكنَّ زنجيّ غَليظُ المشافر وكإطلاق الجحفلة على شفة الإِنسان (وهي للخيل والبغال والحمير) في قول النابغة يهجو لبيد بنَ ربيعة: ألا مَن مبلغٌ عني لبيداً *** أبا الوَرداء جَحْفَلةَ الأَتان والوسم للإبل ونحوها، جعل سِمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعيَّن. فالمعنى: سنعامله معاملةً يُعرف بها أنه عبدُنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئاً. فالوسم: تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه. وأصل (نسمه) نَوْسِمه مثل: يَعِد ويَصِل. وذِكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإِهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونَه في الوجه إذلالاً وإهانة، وكونه على الأنف أشد إذلالاً، والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفَس، ولذلك غلَب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم: شمخ بأنفه، وهُو أشمّ الأنف، وهُم شمّ العرانين، وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف، وجَدْعِه، ووقوعه في التراب في قولهم: رَغِم أنفه، وعلَى رغْم أنفه، قال جرير: لما وَضَعْت على الفرزدق ميسَمي *** وعلى البعيث جَدَعْتُ أنفَ الأخطل ومُعظم المفسرين على أن المعنيَّ بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة. وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله: {سنسمه على الخرطوم} هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار. يريد: ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة. وعن ابن عباس معنى {سنسمه على الخرطوم} سنخطمه بالسيف قال: وقد خُطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوماً إلى أن مات ولم يعيّن ابن عباس من هو. وقد كانوا إذا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرؤوس. قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيتُ العباس لألجمنَّه السيفَ، فقال رسول الله: «يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟». وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله: {يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه} [آل عمران: 106] وجعل تشويهه يومئذٍ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء، وقد كان الأنف مظهر الكِبر ولذلك سمي الكِبر أنفة اشتقاقاً من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)} ضمير الغائيبن في قوله: {بلوناهم} يعود إلى المكذبين في قوله: {فلا تطع المكذبين} [القلم: 8]. والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً دَعت إليه مناسبة قوله: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه ءاياتُنا قال أساطير الأولين} [القلم: 1415] فإن الازدهاء والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقعا من قديم الزمان أصحابهما في بَطَر النعمة وإهمال الشكر فجَرَّ ذلك عليهم شر العواقب، فضرب الله للمشركين مثلاً بحال أصحاب هذه الجَنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم. كما ضرب المثل بقريب منه في سورة الكهف، وضرب مثلاً بقارون في سورة القصص. والبلْوى حقيقتها: الاختبار وهي هنا تمثيل بحال المبتلَى في إرخاء الحبل له بالنعمة ليشكر أو يكفر، فالبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمدّ أهل مكة بنعمة الأمن، ونعمة الرزق، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإِيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطَغوا ولم يتوجهوا إلى النظر في النعم السالفة ولا في النعمة الكاملة التي أكمَلَتْ لهم النعم. ووجه المشابهة بين حالهم وحال أصحاب الجنّة المذكورة هنا هو الإِعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته. وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعيم والقحط بعد الخصب، وإن اختلف السبب في نوعه فقد اتحد جنسه. وقد حصل ذلك بعد سنين إذْ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهذه القصة المضروب بها المثل قصة معروفة بينهم وهي أنه كانت ببلد يقال له: ضَرَوان (بضاد معجمة وراء وواو مفتوحات وألف ونون) من بلاد اليمن بقرب صنعاء. وقيل: ضروان اسم هذه الجنة، وكانت جنّة عظيمة غرسها رجل من أهل الصلاح والإيمان من أهل الكتاب قاله ابن عباس. ولم يبين من أي أهل الكتاب هو: أمِن اليهود أم من النصارى؟ فقيل: كان يهودياً، أي لأن أهل اليمن كانوا تديّنوا باليهودية من عهد بلقيس كما قيل أو بعدها بِهجرة بعض جنود سليمان، وكانت زكاة الثمار من شريعة التوراة كما في الإِصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين. وقال بعض المفسرين: كان أصحابُ هذه الجنة بعد عيسى بقليل، أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلاّ بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القَليس وكان ذلك زمان عام الفيل. وعن عكرمة: كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقاً للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمارها فكان يعيش منها اليتامى والأَرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين، فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحاً وبعضهم دونه فتمالؤوا على حرمان اليتامى والمساكين والأَرامل وقالوا: لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين. فبيتوا ذلك وأقسموا أيماناً على ذلك، ولعلهم أقسموا ليُلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعَوا إليه. وهذا يقتضي أن بعضهم كان متردداً في موافقتهم على ما عَزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى: {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون} [القلم: 28]، قيل كان يقول لهم: اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين، وذكرهم انتقام الله من المجرمين، أي فغلبوه ومضَوا لما عزموا عليه، ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه، ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة. فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودّة قد أصَابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيراً منها. قيل: كانت هذه الجنة من أعناب. والصرم: قطع الثمرة وجذاذها. ومعنى {مُصبحين} داخلين في الصباح أي في أوَائل الفجر. ومعنى {لا يستثنون}: أنهم لا يستثنون من الثمرة شيئاً للمساكين، أي أقسموا ليَصْرِمُنّ جميع الثمر ولا يتركون منه شيئاً. وهذا التعميم مستفاد مما في الصرم من معنى الخزن والانتفاع بالثمرة وإلاّ فإن الصرم لا ينافي إعطاءَ شيء من المجذوذ لمن يريدون. وأُجمل ذلك اعتماداً على ما هو معلوم للسامعين من تفصيل هذه القصة على عادة القرآن في إيجاز حكاية القصص بالاقتصار على موضع العبرة منها. وقيل معناه: {لا يستثنون} لإِيمانهم بأن يقولوا إن شاء الله كما قال تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله} [الكهف: 2324]. ووجه تسميته استثناء أن أصل صيغته فيها حرف الاستثناء وهو (إلاّ)، فإذا اقتصر أحد على «إن شاء الله» دون حرف الاستثناء أطلق على قوله ذلك استثناءٌ لأنه على تقدير: إلا أن يشاء الله. على أنه لما كان الشرط يؤول إلى معنى الاستثناء أطلق عليه استثناء نظراً إلى المعنى وإلى مادة اشتقاق الاستثناء. وعلى هذا التفسير يكون قوله: {ولا يستثنون} من قبيل الإِدماج، أي لِمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا عزموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقاً، والجملة في موضع الحال، والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بُخلِهم على الفقراء والأيتام. وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفاراً، فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو بطر النعمة والاغترار بالقوة. وقوله: {فطاف عليها طائف من ربّك،} الطواف: المشي حول شيء من كل جوانبه يُقال: طاف بالكعبة، وأريد به هنا تمثيل حالة الإِصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان، قال تعالى: {إذا مسهم طائف من الشيطان} الآية [الأعراف: 201]. وعُدّي (طاف) بحرف (على) لتضمينه معنى: تسلط أو نزل. ولم يعين جنس الطائف لظهور أنه من جنس ما يصيب الجنات من الهلاك، ولا يتعلق غرض بتعيين نوعه لأن العبرة في الحاصل به، فإسناد فعل (طاف) إلى {طائف} بمنزلة إسناد الفعل المبني للمجهول كأنه قيل: فطِيف عليها وهم نائمون. وعن الفراء: أن الطائف لا يكون إلاّ بالليل، يعني ومنه سمي الخيال الذي يراه النائم في نومه طَيفاً. قيل هو مشتق من الطائفة وهي الجزء من الليل، وفي هذا نظر. فقوله: {وهم نائمون} تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول، وهو تأكيد لمعنى {طائف} على تفسير الفراء، وفائدته تصوير الحالة. وتنوين {طائف} للتعظيم، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله: {فأصبحت كالصريم} فهو طائف سوء، قيل: أصابها عنق من نار فاحترقت. و {من ربّك} أي جائياً من قِبَل ربّك، ف {مِن} للابتداء يعني: أنه عذاب أرسل إليهم عقاباً لهم على عدم شكر النعمة. وعُجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين. ويؤخذ من الآية موعظة للذين لا يواسون بأموالهم. وإذْ كان عقاب أصحاب هذه الجنة دنيوياً لم يكن في الآية ما يدل على أن أصحاب الجنة منعوا صدقة واجبة. والصريم قيل: هو الليل، والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر كما سمي كل من الليل والنهار مَلْواً فيقال: المَلوَاننِ، وعلى هذا ففي الجمع بين (أصبحتْ) و(الصريم) محسن الطباق. وقيل الصريم: الرماد الأسود بلغة جذيمة أو خزيمة. وقيل الصريم: اسم رملة معروفة باليمن لا تُنبت شيئاً. وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية. وبين (يصرِمُنَّها) و(الصريم) الجناس. وفاء {فتنادوا} للتفريع على {أقسموا ليَصْرِمُنَّها مُصْبِحين،} أي فلما أصبحوا تنادوا لإنجاز ما بيّتوا عليه أمرهم. والتنادي: أي ينادي بعضُهم بعضاً وهو مشعر بالتحريض على الغدوّ إلى جنتهم مبكرين. والغدوّ: الخروج ومغادرة المكان في غُدوة النهار، أي أوله. وليس قوله: {إن كنتم صارمين} بشرط تعليق ولكنه مستعمل في الاستبطاء فكأنهم لإبطاء بعضهم في الغُدوِّ قد عدل عن الجذاذ ذلك اليوم. ومنه قول عبد الله بن عُمر للحجاج عند زوال عرفة يحرضه على التهجير بالرواح إلى الموقف الرواحَ إن كنت تُريد السنة. ونظير ذلك كثير في الكلام. و {على} من قوله: {على حرثكم} مستعملة في تمكن الوصول إليه كأنه قيل: اغدوا تكونوا على حرثكم، أي مستقرين عليه. ويجوز أن يضمن فعل الغدوّ معنى الإِقبال كما يقال: يُغدى عليه بالجَفْنة ويُراح. قال الطيبي: «ومثله قيل في حق المطلب تَغدُو دِرَّتُه (التي يضرب بها) على السفهاء، وجَفنته على الحُلماء». والحرث: شق الأرض بحديدة ونحوها ليوضع فيها الزريعة أو الشجر وليزال منها العشب. ويطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإِصلاح شجرها، وهو المارد هنا كقوله تعالى: {وحرثٌ حِجْر} في سورة الأنعام (138)، وتقدم في قوله: {والأَنعاممِ والحرثِ} في سورة آل عمران (14). والتخافت: تفاعل من خَفَتَ إذا أسرّ الكَلام. وأن لا يدخلنَّها اليوم عليكم مسكين} تفسير لفعل {يتخافتون} و{أن} تفسيرية لأن التخافت فيه معنى القول دون حروفه. وتأكيد فعل النهي بنون التوكيد لزيادة تحقيق ما تقاسموا عليه. وأسند إلى {مسكين} فعل النهي عن الدخول والمراد نهي بعضهم بعضاً عن دخول المسكين إلى جنتهم، أي لا يترك أحد مسكيناً يدخلها. وهذا من قبيل الكناية وهو كثير في استعمال النهي كقولهم: لا أعرفنَّك تَفْعَلُ كذا. وجملة {وغَدوا على حَردٍ قادرين} في موضع الحال بتقدير (قد)، أي انطلقوا في حال كونهم غادين قادرين على حَرد. وذُكِر فعل {غَدَوا} في جملة الحال لقصد التعجيب من ذلك الغدوِّ النحس كقول امرئ القيس: وباتَ وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد بعد قوله: تَطاول ليلك بالأثمُد *** وباتَ الخَلي ولم تَرْقُد يخاطب نفسه على طريقة فيها التفات أو التفاتان. والحرد: يطلق على المنع وعلى القصد القوي، أي السرعة وعلى الغضب. وفي إيثار كلمة {حَرْد} في الآية نكتة من نكت الإِعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه، أي بأن يتعلق {على حرد} ب {قادرين}، أو بقوله {غَدوا،} فإذا علق ب {قادرين،} فتقديم المتعلِّق يفيد تخصيصاً، أي قادرين على المنع، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع. والتعبير بقادرين على حرد دون أن يقول: وغدوا حاردين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها قال تعالى: {لا يَقدرون على شيء مما كسبوا} [البقرة: 264] وقال: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4] فقوله: {على حرد قادرين} على هذا الاحتمال من باب قولهم: فلان لا يملك إلاّ الحِرمان أو لا يقدر إلاّ على الخيبة. وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان {على حرد} متعلقاً ب {غَدَوا} مبيناً لنوع الغُدو، أي غدوا غدُوَّ سرعة واعتناء، فتكون {على} بمعنى باء المصاحبة، والمعنى: غدوا بسرعة ونشاط، ويكون {قادرين} حالاً من ضمير {غدوا} حالاً مقدَّرة، أي مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا. وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا، دل عليه قوله بعده {فلما رأوها قالوا إنا لضالون} [القلم: 26]، وقولُه قبله {فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون}. وإذا أريد بالحرد الغضب والحَنق فإنه يقال: حَرَدٌ بالتحريك وحَرْدٌ بسكون الراء ويتعلق المجرور ب {قادرين} وتقديمه للحصر، أي غدوا لا قدرة لهم إلاّ على الحَنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها، أي لم يقدروا إلاّ على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة. وعن السدي: أن {حَرد} اسم قريتهم، أي جنتهم. وأحسب أنه تفسير ملفق وكأنَّ صاحبه تصيده من فعلي {اغْدُوا وغَدوا}.
|